ليلة على اللازوري مع ولد عوّه

سبت, 10/06/2023 - 11:55

فتحت شريطا قديما من سيد أحمد البكاي ولد عوّه..
 غنى الأبيات:
شجى وشفى لما شدا وترنما :: فأنعس أيقاظا وأيقظ نوّما
وغنّى كأنّ العودَ صار له صدًى :: يحاكيه في ألفاظه إن تكلّما
إذا ردّدت ألفاظه اللحن معربا :: أعادت لنا أوتارُه اللفظ معجما

الأبيات دلت على الرجل حين غناها، لقد شدا وترنم فشجا وشفا وكانت تدنيته طايبه وكانت تحاكي ألفاظه وتعجم إعرابه.
لاحظتُ أن الرجل لم يلحن في قراءة الأبيات ولم يكسر عروضا وتجلى ذلك أكثر حين غنى:
يقـولون ليلى بالعـراق مريضـة :: فما لك لا تضنـى وأنت صديـق
شفى الله مرضى بالعـراق فإنني :: على كل مضنى بالعراق شفيـق
فإن تك ليلى بالعـراق مريضـة :: فإنيّ في بـحر الغرام غريـق
أهيـم بأقطار البلاد وعرضهـا :: ومالـي إلى ليلى الغـداة طريـق
كـأن فـؤادي فيه نار تقادحت :: وفيه لـهيب ساطـع وبـروق
إذا ذكرتها النفس ماتت صبابـة :: لهـا زفـرة قتـالة وشهيــق
سبتنـيّ شمس يُخجل البدر نورها :: ويكسف ضوء البرق وهو بـروق
غرابية الفرعيـن بدريـة السنـا :: ومنظـرها بادي الجمـال أنيـق
برى حبها جسمي وقلبي ومهجتي :: فلم يبـق إلاّ أعظـم وعـروق
فلا تعذلوني إن هلكت ترحـموا :: عليّ، ففقـد الروح ليس يعـوق
وخطوا على قبري إذا مت أسطرا :: قتيل لـحاظ مات وهو عشيـق
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى :: بليلى، ففي قلبي جوى وحريـق

غنى هذه الأبيات من حفظه بتسلسل، وبنوع من التداعي الواعي بالمعاني يدل على انتمائه لثقافة عالمة.

كان ولد عوّه إلى جانب انتقائه للكلمات و جودة محفوظاته وسلامة أدائه، يُعنَى بزيّه الذي كان أنيقا رغم بساطته وهو ما يلخصه العلامة الشفيع ولد المحبوبي رحمه الله، في قوله:
ألا لله درك من أبيِّ :: أديب شاعرٍ حسن التزيِّي
ترنمُ بالقريض و حين تشدو :: تَرُدُّ أخا الرشاد لكل غَيِّ
فبينك والمغنين الشوادي :: كما بين الصبيحة والعشيِّ

ويقول له:
إن ابنَ عَوَّ حباه مانح المنح :: حسن الأغاني وحسن الخلق والملح
تخاله إن شدا إسحاق مبتهجا :: بمقدم الملك المأمون في الفرح

أرخى الليل سدوله وغاب قمير لم أكن أود غيوبه لكن الضياء على اللازوردي لم يتأثر بغياب القمير فكانت مياه شاطئه الهيمان تعكس ضوء مصابيح بعيدة وكانت المُويجات تأتي أزواجا وتنفصل محدثة صوتا خافتا..

 غنى ول عوه شور "صمب بوبو":
گطعت ذلّ منها فلشِ :: حبِّ فالدار اعلَ بمبَ
وان مان لاه نمشِ :: متفگد من حبِّ حبَّ

وتذكرت گاف الشيخ ولد مكين في ذات الشور:
الهول احنَ هاذو لكهول :: كنّ نسبولُ سِبّ
واليوم ابلا سِبّ للهول :: ألا بينَ باط الطَبَ

وغنى ولد عوه البله الأول القديم "أم النومنينَ لوجاد" وهو أقدم الأبلاه:
أخلاگ المِنخدرَ :: من نوبتنَ فالواد
أظيگ من عينْ ابرَ :: ولّ عين أجَبّاد

وغنى البله لكبير المشوهد بـ :
تسائلني بديلةُ عن أبيها :: ولم تعلم بديلة ما ضميري ..

بعدِتْ منك سبّتْ كتلك :: وانتَ دمعكْ صبابةً
يعگلِ ذِ لا تخلكلك :: أرضُ اللهِ واسعة ً

وغنى شور التعگال "يلالي شنواسي" وفيه گاف الأمير أحمد ولد محمد محمود ولد امحيميد، وهو (گاف أحمر) أي أنه التزم حرفا واحدا في التيفواتن الأربع  :
إلّ شاف املاسي :: وَيَّ گومْ اعكاسي
إشكْ إنِّ ناسي :: وانَ مانِ ناسي

لم يكن ولد عوه مناطقيا في محفوظاته ومروياته، فقد لاحظت أنه أنشد نصوصا لأهل تمبدغه، وأنشد لسدوم ولد آبه الكبير،  وأنشد للأمير سيدي أحمد ولد أحمد العيده، وأنشد طلعة اشواگير للأديب ولد اخيار أهلُ، وأنشد لامحمد ولد أحمد يوره، ولمحمدن ولد أبنو المقداد أو محمدَن كما يقول..

 وأنا استمع لول عوه خطرت ببالي بعض طرفه لقد كان مرحا خفيف الظل.
كقصته حين زار دمشق قادما من المدينة المنورة، وحين سئل في العراق هل هو فنان من العرب فقال إن العرب ما عگبو أولاد امبارك.
وقصة مع رجل أهل الحيوان (الكسب لبيظ) الذي جاء إليه ولزمه يريد تعلم التدنيت، وبعد فترة من الزمن أراد ولد عوّه أن يختبر الرجل الذي آذن بالرحيل فسأله:
انت اشْعدتْ تعرفْ من أزوان؟
فأجاب الرجل: عت نعرف (الكَرْصْ)
فقال ولد عوّه: ذاك جيتنا تعرفو!! (وهي توريّة بديعة) لا يعقلها إلا العالمون.

يطلق (الكَرْصْ) في الحسانية على (اعزيب لغنم) أوالغنم البيض خاصّة.
وقيل الكَرص: من (اتكرصي) وهو جمع الغنم بشكل دائري
وهي طريقة يحرس بها الرعاة قطيع الغنم في لعزيب؛ فيجمعونها بشكل دائري محاطة بالكلاب، مخافة اعتداء الذئاب عليها.

وذات أنس في استراحة (كَرْصْ) بعد رحلة صيد عند اعزيب لأمير أولاد امبارك محمد (آماش) ول أعمر ول اعل ولد هنون ولد بهدل، كان شور(الكَرْصْ).
لقد أبدعته أنامل أودعها الله سرالتدنيت أنامل العازف الخالد اعل انبيط ول حيبل عزفه للأمير (آماش) في ليلة الأنس تلك وسماه باسم المكان(الكَرْصْ) ليسافر صداه مع الزمان.

والكرص يفتح به ابياظ انتماس، ويتكون من ثلاث نغمات أساسيات: (التصبيرة والذنبانة والردفة).
وقد تعاقب على شور (الكرص) أمراء أولاد امبارك الثلاثة الأشقاء: (محمد آماش، واعل، وخطري) لأمهم منت امحمد لمباركية من أولاد العالية؛ فسمي "بت اظيار".

وشواهده كالآتي:
- شاهد محمد آماش: (ول أعمر ول اعل دومولي يالخلاگ )، وهو الكرص الأصلي.
- شاهد اعل: (ول أعمر ول اعل ماريتْ أللي كيف)
- شاهد خطري: (ول أعمر ول اعل لادَوّرْ فيّ دين).
 
وتذكرت قصة ولد عوّه مع مُحدَثِ النعمة الذي سأله حين غنى له (الكَرْصْ):
هو ولْ أعمر ولْ اعل مزالْ حي ؟!
فأجابه ول عوّ:  
ماهِ امشابْهَ ولد أعمر ول اعل يلو كانْ حي ما انعود آن گاعد امعاك انتَ، زمّال من الطلبَه ما اتفاصل بين انتماس وبيگي نخبطلك التيدنيت..

رحم الله ولد عوه يوم غاب نجمه في 26 مارس 2000 غاب نجم من الرعيل الأول وغاب معه الكثير من أسرار فن التدنيت والكثير من الأدب والظرافة.

كامل الود